51Թ

18/07/2020

محاضرة نيلسون مانديلا: ”التصدي لآفة اللامساواة: عقد اجتماعي جديد لعهد جديد“

كتبا: أنطونيو غوتيريش

أصحاب السعادة، حضرات المدعوين والأصدقاء الموقرين،

إنه لشرف لي أن أنضمّ إليكم بمناسبة تكريم نيلسون مانديلا، ذلك القائد العالمي الفذّ والداعية المتميز والقدوة المنقطعة النظير.

وأشكر مؤسسة نيلسون مانديلا على إتاحة هذه الفرصة ولا يفوتني أن أنوّه بالعمل الذي تضطلع به للحفاظ على شعلة رؤيته الثاقبة. وأتوجه بأحرّ التعازي إلى أسرة مانديلا وإلى جنوب أفريقيا، حكومةً وشعباً، في الوفاة المفاجئة لزيندزي مانديلا في وقت سابق من هذا الأسبوع. فلترقد روحها في سلام.

لقد حالفني الحظ واجتمعت بنيلسون مانديلا عدة مرات. ولن أنسى أبدا ما كان يتحلى به من حكمة وعزم وتعاطف، وهي خصال كانت تتبدّى في كل أقواله وأفعاله.

وفي آب/أغسطس الماضي، زُرت زنزانة ماديبا في جزيرة روبن. ووقفت هناك، أنظر عبر القضبان، وقد غمرتني مشاعر الهيبة مرة أخرى إزاء جلادته العقلية الهائلة وشجاعته التي لا تُقهر. لقد قضى نيلسون مانديلا 27 عاما في السجن، وأمضى 18 من تلك الأعوام في جزيرة روبن. لكنه لم يسمح أبداً لهذه التجربة أن تحدد شخصيته أو مسار حياته.

وسَما نيلسون مانديلا فوق أغلال سجّانيه ليحرّر الملايين من مواطني جنوب أفريقيا ويتحول إلى مصدر إلهام عالمي وأحد رموز العصر الحديث.

فقد كرّس حياته لمكافحة أوجه اللامساواة التي أصبحت أبعادُها تنذر بوقوع أزمة في مختلف أنحاء العالم على مدى العقود الأخيرة ــ وهو ما يشكل خطرا متزايداً يهدّد مستقبلنا.

واليوم، الذي يوافق يوم ميلاد ماديبا، سأتحدّث عن سُبل معالجة آفة اللامساواة بأطيافها وطبقاتها المتعددة التي يعزز بعضها بعضا، قبل أن تدمّر اقتصاداتنا ومجتمعاتنا.

أصدقائي الأعزاء،

وجاءت جائحة كوفيد-19 لتسلط الضوء على هذا الوضع الجائر.

إن العالم في حالة فَوران. والاقتصادات في حالة انهيار متسارع.

فقد تمكّن فيروس مجهري من النزول بنا إلى الحضيض.

وكشفت هذه الجائحة النقابَ عن الضعف الذي يعتري عالمنا.

وأماطت اللثام عن مخاطر أمعنّا في تجاهلها على مدى عقود من الزمن: من نظمٍ صحية مهترئة؛ وثغراتٍ في نظم الحماية الاجتماعية؛ وتفاوتاتٍ هيكلية؛ وتدهورٍ بيئي؛ وأزمةِ مناخ.

وفي غضون أشهر قليلة، مُنيت مناطق بأكملها بنكسة أعادتها سنوات إلى الوراء بعد أن كانت ماضيةً في إحراز تقدم نحو القضاء على الفقر وتضييق فجوة اللامساواة.

ويشكل هذا الفيروس أكبر خطر يهدد الفئات الأكثر ضعفا: أي تلك التي تعيش في حالة فقر، وكبار السن، والأشخاص ذوو الإعاقة والمصابون بحالات مرضية سابقة.

ويتصدّر العاملون في مجال الصحة الخطوط الأمامية في هذه المواجهة، حيث يزيد على 000 4 شخص عددُ المصابين منهم بالفيروس في جنوب أفريقيا وحدها.

وفي بعض البلدان، تتخذ التفاوتات في المجال الصحي أبعادا مضاعفة حيث تقوم المستشفيات الخاصة، بل والمؤسسات التجارية وحتى الأفراد بتخزين كميات كبيرة من المعدات القيّمة التي تمس الحاجة إليها من أجل توفير العلاج للجميع.

وتؤثر التداعيات الاقتصادية للجائحة على العاملين في الاقتصاد غير النظامي؛ وكذلك على المنشآت الصغيرة والمتوسطة؛ والأشخاص الذين يتحمّلون مسؤوليات الرعاية، ومعظمهم من النساء.

ونحن نواجه أعمق موجة ركود تعصف بالعالم منذ الحرب العالمية الثانية، وأوسع انهيار في المداخيل منذ عام 1870.

وقد يسقط مائة مليون شخص آخرين في براثن الفقر المدقع. وقد نشهدُ مجاعات بأبعادٍ لم يسبق لها نظير.

وثمة من شبّه جائحة كوفيد-19 بالأشعة السينية التي كشفت كسورا في الهيكل الهش للمجتمعات التي بنيناها.

وما فتئت تفضح المغالطات والأكاذيب المستشرية في جميع المناحي:

الأكذوبة القائلة بأن الأسواق الحرة كفيلة بتوفير الرعاية الصحية للجميع؛

والتصور غير المنطقي الذي يفيد بأن أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر ليست أعمالا حقيقية؛

والوهم الذي يوحي لنا بأننا نعيش في عالم ما بعد العنصرية؛

والأسطورة التي تصفنا بأننا جميعا ركابٌ في نفس القارب.

وصحيح أننا نطفو جميعا على أمواج نفس البحر، لكن الواضحَ أن البعض منا يتأرجح على متن اليخوت الفاخرة في حين يتشبث البعض الآخر بالحطام العائم خوفا من الغرق.

أصدقائي الأعزاء،

لقد أصبحت اللامساواة السمةَ البارزة في عصرنا.

إذ يعاني أكثر من 70 في المائة من سكان العالم من تزايد التفاوتات في الدخل والثروة. ويمتلك أغنى 26 شخصا في العالم ثروة تضاهي ما يملكه نصف سكان العالم مجتمعين.

بيد أن الدخل والأجور والثروة ليست هي المقاييس الوحيدة لمظاهر اللامساواة. فحظوظ الناس في الحياة تتوقف على نوع الجنس والخلفية الأسرية والأصل الإثني والعرق وما إذا كانت لديهم إعاقة أم لا، وعوامل أخرى.

وثمة تقاطع بين العديد من أوجه اللامساواة، كما يغذّي بعضها البعض من جيل لآخر. فحياة الملايين من الناس وآمالهم غالباً ما تُمليها الظروف التي يولدون في ظلها.

وهكذا، تؤدي اللامساواة إلى تقويض جهود التنمية البشرية – على نحو يضرّ بالجميع. فنحن جميعا نعاني من عواقب هذه الآفة.

ويرتبط ارتفاع مستويات اللامساواة بعدم الاستقرار الاقتصادي، والفساد، والأزمات المالية، وزيادة معدلات الجريمة، وتردّي الصحة البدنية والعقلية.

وتتجلى مظاهر اللامساواة التي يعاني منها الكثيرون في التمييز وسوء المعاملة وغياب فرص اللجوء إلى العدالة، ولا سيما منهم السكان الأصليون والمهاجرون واللاجئون والأقليات من جميع المشارب. وتشكّل أوجه اللامساواة هذه اعتداء مباشرا على حقوق الإنسان.

ولذلك، ظلت معالجة اللامساواة تمثّل على مرّ التاريخ القوة الدافعة لتحقيق العدالة الاجتماعية وحقوق العمل والمساواة بين الجنسين.

والرؤية التي تتبناها الأمم المتحدة والوعد الذي تقطعه يصبّان كلاهما في حقيقة مفادها أن الغذاء والرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي والتعليم والعمل اللائق والضمان الاجتماعي ليست سلعا تُباع لمن يستطيع تحمل تكاليفها، وإنما هي حقوق أساسية من حقوق الإنسان المكفولة للجميع.

ونحن نعمل من أجل الحدّ من أوجه اللامساواة، كل يوم، وفي كل مكان.

واليوم، لا تقل أهمية هذه الرؤية عن أهميتها قبل 75 عاما.

وهي تصبّ في صميم خطة التنمية المستدامة لعام 2030، خطتنا المتفق عليها لتحقيق السلام والازدهار في كوكب ينعم بالصحة، على نحو ما يعبّر عنه الهدف 10 من الأهداف الإنمائية للألفية المتمثل في الحد من أوجه اللامساواة داخل البلدان وفيما بينها.

أصدقائي الأعزاء،

حتى قبل تفشي جائحة كوفيد-19، كان الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم يدركون أن اللامساواة تقوّض حظوظهم وفرصهم في الحياة.

وكان العالم كما يرونه عالما غير متوازنٍ.

وكانوا يشعرون أن الركب قد فاتَهم.

وكانوا يعتبرون أن السياسات الاقتصادية توجه الموارد صعودا إلى القلة المحظوظة.

وخرج الملايين من الناس في جميع القارات إلى الشوارع لإسماع أصواتهم.

وكان ارتفاع معدلات اللامساواة وتفاقمها من القواسم المشتركة بين تلك الأصوات.

والغضب الذي كان وراء تأجيج الحركتين الاجتماعيتين الأخيرتين، إنما يعكس خيبة أملٍ مطلقة إزاء الوضع الراهن.

فقد قررت النساء في كل مكان وضع حدّ لأحد أبشع مظاهر اللامساواة بين الجنسين، وهو العنف الذي يرتكبه الرجال الذين يحتلون مواقع القوة ضد نساءٍ كل ما يسعين إليه هو القيام بعملهن.

والحركة المناهضة للعنصرية التي امتدت أصداؤها من الولايات المتحدة إلى جميع أنحاء العالم في أعقاب مقتل جورج فلويد هي علامة أخرى على أن الناس قد سئِمت:

سئِمت من أوجه اللامساواة والتمييز التي تفرض معاملة الناس كمجرمين على أساس لون بشرتهم؛

سئِمت من مظاهر العنصرية البنيوية والظلم المُمنهج التي تحرم الناس من حقوقهم الإنسانية الأساسية.

وكلا الحركتين تحيلان إلى مصدرين تاريخيين من مصادر اللامساواة في عالمنا: الاستعمار والسلطة الأبوية.

فقد فرض الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، وتحديدا قارتي الأوروبية، الحكم الاستعماري على جزء كبير من جنوب الكرة الأرضية على مدى عدة قرون، باستخدام العنف والإكراه.

وأوجدَ هذا الاستعمار تفاوتات شاسعة داخل البلدان وفيما بينها، بما في ذلك شرور تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي ونظام الفصل العنصري هنا في جنوب أفريقيا.

وبعد الحرب العالمية الثانية، أُنشئت الأمم المتحدة بناء على توافق عالمي جديد في الآراء محوره المساواة والكرامة الإنسانية.

واجتاحت العالم موجة من عمليات إنهاء الاستعمار.

لكن علينا ألا نخدع أنفسنا.

فأصداء الإرث الاستعماري لا تزال تتردد حتى الآن.

ويتجلى ذلك في مظاهر الظلم الاقتصادي والاجتماعي، وارتفاع معدلات جرائم الكراهية وكره الأجانب؛ واستمرار العنصرية المؤسسية وفِكر تفوق العرق الأبيض.

ويتجلى ذلك أيضا في نظام التجارة العالمية. فالاقتصادات التي كانت خاضعة للاستعمار معرضةٌ أكثر من غيرها لأن تظل حبيسة نظم إنتاج المواد الخام والسلع التي تعتمد صناعتها على التكنولوجيا البسيطة ــ وهذا شكل جديد من أشكال الاستعمار.

كما يتجلى ذلك في موازين القوى على الصعيد العالمي.

فقد جُني على أفريقيا مرتين. وكانت المرة الأولى عندما اتُّخذت هدفا لشروع استعماري. أما المرة الثانية، فتتمثل في نقص تمثيل البلدان الأفريقية في المؤسسات الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، أي قبل أن يتسنى لمعظمها نيل الاستقلال.

وظلت الدول التي احتلّت الصدراة قبل 70 عاماً ترفض حتى التفكير في الإصلاحات اللازمة لتغيير علاقات القوة في المؤسسات الدولية. ولعلّ خيرُ مثال على ذلك تكوين العضوية وحقوق التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجالس نظام بريتون وودز.

إن اللامساواة تنبع من القمة: من المؤسسات العالمية. وجهود معالجة اللامساواة يجب أن تبدأ بإصلاح تلك المؤسسات.

ودعونا نتذكّر مصدرا مهما آخر من مصادر اللامساواة في عالمنا: إنه النظام الأبوي المتجذّر على مدى آلاف السنين.

فنحن نعيش في عالم يُهيمن عليه الرجال وتطغى فيه الثقافة الذكورية.

وحيثما ولّينا وجهنا، وجدنا أن المرأة أسوأ حالا من الرجل، لمجرد أنها امرأة. وأصبحت اللامساواة والتمييز هما القاعدة. وبلغ العنف ضد المرأة، بما في ذلك قتل الإناث، مستويات كارثية.

وعلى الصعيد العالمي، لا تزال المرأة مستبعدة من المناصب العليا في الحكومات وفي مجالس إدارة الشركات. ولا تتجاوز نسبة النساء بين قادة العالم عشرة في المائة.

إن اللامساواة بين الجنسين تضرّ بالجميع لأنها تقف عقبة أمام قدرتنا على الاستفادة من ذكاء البشرية جمعاء وخبرتها.

ولهذا السبب، وبصفتي من مناصري المرأة الفخورين، جعلتُ من المساواة بين الجنسين أولوية قصوى، وأصبح التكافؤ بين الجنسين حقيقة واقعة في الوظائف العليا في الأمم المتحدة. وإنني أحثّ جميع القادة على اتباع النهج ذاته.

ويسرني أن أعلن أن سيا كوليسي من جنوب أفريقيا هو نصيرنا العالمي الجديد في ”مبادرة الأمم المتحدة لتسليط الضوء“، حيث يعمل على إشراك رجال آخرين في جهود مكافحة آفة العنف ضد النساء والفتيات على الصعيد العالمي.

أصدقائي الأعزاء،

لقد تمخّضت العقود الأخيرة عن توترات واتجاهات جديدة.

وأفرزت العولمة والتغيرات التكنولوجية مكاسب هائلة على مستوى الدخل والازدهار.

وتخلّص أكثر من بليون شخص من شباك الفقر المدقع.

لكن توسّع التجارة والتقدم التكنولوجي أسهما أيضا في حدوث تحوّل غير مسبوق في توزيع الدخل.

وبين عامي 1980 و 2016، تمكن أغنى أغنياء العالم، ونسبتهم 1 في المائة، من الاستحواذ على 27 في المائة من مجموع النمو التراكمي في الدخل.

ويواجه العمال ذوو المهارات المتدنية هجمة شرسة تشنّها عليهم التكنولوجيات الجديدة، وتقنيات التشغيل الآلي، وتفاقمها سياسات نقل التصنيع إلى الخارج وأفول منظمات العمال.

ولا تزال التسهيلات الضريبية وتجنب الضرائب والتهرب من دفعها ممارسات واسعة الانتشار. أما معدلات الضريبة على الشركات، فإنها في تراجع.

وقد أدى ذلك إلى خفض الموارد المتاحة للاستثمار في الخدمات ذاتها التي يمكن أن تساهم في الحد من اللامساواة من قبيل: الحماية الاجتماعية، والتعليم، والرعاية الصحية.

وظهر جيل جديد من أوجه اللامساواة التي تتجاوز معايير الدخل والثروة لتشمل المعارف والمهارات اللازمة للنجاح في عالم اليوم.

وتبدأ التفاوتات العميقة قبل الولادة، لترسم مسار حياة الناس – وتحدد حالات الوفاة المبكّرة.

ففي البلدان التي ترتفع فيها معدلات التنمية البشرية، تزيد على 50 في المائة نسبةُ الشباب في العشرينات من العمر الذين بلغوا مرحلة التعليم العالي. أما في البلدان ذات معدلات التنمية البشرية المنخفضة، فإن هذه النسبة لا تتجاوز 3 في المائة.

والأدهى والأمرّ من ذلك أن نسبة الوفيات في صفوف الأطفال الذين ولدوا قبل عشرين عاما في البلدان التي تنخفض فيها معدلات التنمية البشرية تناهز 17 في المائة.

أصدقائي الأعزاء،

إذ نتطلع إلى المستقبل، يلُوح لنا في الأفق تحولان جذريان سيحددان معالم القرن الحادي والعشرين هما: أزمة المناخ، والتحول الرقمي. وكلاهما يمكن أن يُفاقم فجوة التفاوتات القائمة.

وتثير بعض التطورات التي نشهدها في مراكز التكنولوجيا والابتكار المعاصرة قلقاً بالغاً.

فصناعة التكنولوجيا التي يهيمن عليها الذكور بشدة لا تتجاهل فقط نصف خبرات العالم ورؤاه، بل هي تستخدم أيضاً خوارزميات يمكن أن تزيد من ترسُّخ التمييز على أساسي نوع الجنس والعرق.

كما أن الفجوة الرقمية توسّع من الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، من محو الأمية وحتى الرعاية الصحية، ومن المناطق الحضرية إلى المناطق الريفية، وبدءا من رياض الأطفال ووصولا إلى الجامعات.

ففي عام 2019، كان نحو 87 في المائة من سكان البلدان المتقدمة النمو يستخدمون شبكة الإنترنت، مقابل 19 في المائة فقط في أقل البلدان نمواً.

إننا نواجه اليوم خطر التحوّل إلى عالم يسير على درب التقدم بسرعتين مختلفتين.

وفي الوقت نفسه، سيتضرر الملايين بحلول عام 2050 من تسارع تغيّر المناخ، فيصابون بسوء التغذية والملاريا وأمراض أخرى ويعانون من الهجرة والظواهر الجوية القصوى.

وسيسفر ذلك عن تهديدات خطيرة تحيق بالمساواة والعدالة بين الأجيال التي يراد لها جميعا الاستفادة من موارد الكوكب. لذا يقف متظاهرو اليوم من الشباب المهتمين بحالة المناخ في طليعة الصفوف في معركة القضاء على اللامساواة.

إن البلدان الأشد تضررا من اضطرابات المناخ لم تسهم إلا بأقل القليل في الاحترار العالمي.

والاقتصاد الأخضر سيكون مصدرا جديدا للرخاء وفرص العمل. ولكن البعض سوف يفقدون وظائفهم، وخاصة في مناطق العالم التي كانت من قبل معاقل للنشاط الصناعي وأصبحت اليوم تعيش حقبة ما بعد الصناعة.

وإننا، لهذا السبب، لا ندعو إلى العمل المناخي فحسب، بل وإلى العدالة المناخية أيضا.

ولا بد أن ترفع القيادات السياسية من سقف طموحاتها، وأن يتطلع أرباب الأعمال التجارية إلى تحقيق المزيد، وأن يعلي الناس في كل مكان أصواتهم.

فهناك طريق أفضل ولا بد لنا أن نسلكه.

أصدقائي الأعزاء،

إن الآثار المروعة لمستويات اللامساواة السائدة اليوم واضحةٌ للعيان.

وقد يقال لنا في بعض الأحيان أن دفق النمو الاقتصادي المتصاعد سوف ترفع أمواجُه المراكب كلها كي تطفو من جديد.

ولكن الواقع أن تصاعد اللامساواة يودي بالمراكب كلها في غياهب اليَمّ.

إن الثقة في المؤسسات وفي القادة آخذة في التآكل. فقد انخفضت نسبة إقبال الناخبين على التصويت عما كانت عليه في بداية التسعينات من القرن الماضي بمعدل عالمي بلغ متوسطه 10 في المائة.

والناس، عندما يشعرون بأنهم مهمشون، يصبحون فريسةً سهلة للخطاب الذي يلقي باللائمة على الآخرين، ولا سيما مَنْ يبدون بهندامهم وتصرفاتهم مختلفين عنهم، فيحمّلهم المسؤولية عن مصائب غيرهم.

لكن الشعبوية والقومية والتطرف والعنصرية ونزعة اتخاذ الآخر كبش فداء لن تسفر إلا عن مزيد من اللامساواة والانقسام داخل المجتمعات المحلية وبينها؛ مزيد من اللامساواة والانقسام بين البلدان، وبين الأعراق، وبين الأديان.

إن جائحة كوفيد-19 مأساة إنسانية بحق. ولكنها مأساة خلقت أيضا فرصةً لا تتاح للأجيال إلا في القليل النادر.

فرصة لمعاودة البناء من أجل إيجاد عالم أكثر مساواة واستدامة.

إن مساعي التصدي لهذه الجائحة، والاستجابة لحالة السخط الواسعة الانتشار التي سبقتها، يجب أن تقوم على ”عقد اجتماعي جديد“ و ”صفقة عالمية جديدة“ يتيحان فرصا متساوية للكل ويحترمان حقوق الجميع وحرياتهم.

فهذا هو السبيل الوحيد إلى الوفاء بأهداف خطة التنمية المستدامة لعام 2030 واتفاق باريس وخطة عمل أديس أبابا - وهي الاتفاقات التي تعالج تحديداً تلك الإخفاقات التي كشفت الجائحةُ النقاب عنها وتغذَّت عليها.

ومن شأن عقد اجتماعي جديد تعتمده المجتمعات أن يمكِّن الشباب من العيش بكرامة؛ وأن يضمن للنساء الآفاق والفرص نفسها التي يتمتع بها الرجال؛ وأن يحمي المرضى والضعفاء والأقليات من جميع المشارب.

ولا بد أن يكون التعليم والتكنولوجيا الرقمية عاملي التمكين وتحقيق المساواة بامتياز.

”إن التعليم أقوى سلاح يمكننا استخدامه لتغيير العالم“ هذا ما قاله نيلسون مانديلا وقد كان كعادته أول من نادى بذلك.

ولا بد أن تعطي الحكومات الأولويةَ للمساواة في فرص الحصول على التعليم، بدءا بالتعلّم المبكر وحتى التعليم مدى الحياة.

فعلوم الأعصاب تنبهنا إلى أن التعلّم في المرحلة التي تسبق التحاق الطفل بالمدرسة يغيّر حياة الأفراد ويجلب فوائد هائلة للمجتمعات المحلية والمجتمعات قاطبة.

ولذلك فعندما تزيد فرص التحاق الأطفال الأكثر ثراء بدور التعلّم قبل المدرسي سبع مرات عن فرص أقرانهم الأكثر فقراً، ليس بالغريب أن تكون اللامساواة متوارثةً بين الأجيال.

وإذا أردنا توفير تعليم ذي نوعية جيدة للجميع، فسيتعين علينا أن نزيد الإنفاق على التعليم في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل بأكثر من الضعف لكي يصل بحلول عام 2030 إلى 3 تريليونات دولار سنويا.

حينئذ سيتمكن جميع الأطفال في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل، خلال جيل واحد، من الحصول على التعليم الجيد بجميع مراحله.

وهذا أمرٌ مستطاع. كل ما علينا هو أن نعقد العزم على تحقيقه.

واليوم، مع التحول العميق الذي تحدثه التكنولوجيا في عالمنا، لم يعد تعلم الحقائق واكتساب المهارات كافيا. بل إن الحكومات يتعين عليها أن تمنح الأولوية للاستثمار في محو الأمية الرقمية وتعزيز البنية التحتية الرقمية.

وسيكون من الضروري تعلُّم كيف نتعلم ونتكيّف ونتقن مهاراتٍ جديدة.

فالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي سيبدلان طبيعة العمل والعلاقةَ بين العمل والترفيه وأنشطةٍ أخرى، بعضها نعجز عن تخيله اليوم.

إن خريطة الطريق من أجل التعاون الرقمي، التي أطلقتها الأمم المتحدة في الشهر الماضي، تتوخى رؤيةً لمستقبل رقمي مستدام وشامل للجميع يتحقق من خلال ربط أربعة بلايين نسمة، هم بقية سكان العالم المحرومين من الاتصال الإلكتروني، بشبكة الإنترنت بحلول عام 2030.

وقد أطلقت الأمم المتحدة أيضا مبادرة ’Giga‘، وهي مشروع طموح لربط جميع مدارس العالم بشبكة الإنترنت.

ويمكن للتكنولوجيا أن تعطي دفعةً هائلة لجهود التعافي من جائحة كوفيد-19 ولمساعي تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

أصدقائي الأعزاء،

إن هوة انعدام الثقة بين الناس والمؤسسات والقادة، وهي هوة آخذة في الاتساع، تهددنا جميعا.

فالناس يريدون أنظمة اجتماعية واقتصادية تعمل لما فيه خير الجميع. وهم يريدون أن تُحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية الواجبة لهم. ويريدون أن يشاركوا في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم.

ولا بد للعقد الاجتماعي الجديد، المبرم بين الحكومات والناس والمجتمع المدني وأرباب الأعمال التجارية وغيرهم، أن يتصدى لمسائل العمالة والتنمية المستدامة والحماية الاجتماعية على أساس تكافؤ الجميع في الحقوق والفرص.

ويمكن لسياسات سوق العمل، إذا اقترنت بحوار بنّاء بين أرباب العمل وممثلي العمال، أن تحسّن الأجور وظروف العمل.

وجدير بالذكر أن تمثيل العمال أمر بالغ الأهمية في إدارة التحديات التي تهدد الوظائف نتيجة للتطور التكنولوجي والتحوّل الهيكلي - بما في ذلك التوجه نحو اقتصاد أخضر.

وللحركة العمالية تاريخٌ يبعث على الفخر حاربت خلاله اللامساواة وذادت عن الحقوق والكرامة للجميع.

ومن الضروري إدماج القطاع غير الرسمي تدريجيا في أطُر الحماية الاجتماعية.

فعالمنا الآخذ في التغير يتطلب جيلاً جديداً من سياسات الحماية الاجتماعية ينطوي على شبكات أمان جديدة، بما يشمل توفير التغطية الصحية للجميع وإمكانية حصولهم على دخل أساسي.

ومن الأهمية بمكان وضع مستويات دنيا من الحماية الاجتماعية ومعالجة التناقص المزمن في الاستثمارات الموجهة إلى الخدمات العامة، بما فيها التعليم والرعاية الصحية والتوصيل بشبكة الإنترنت.

ومع ذلك، لا يكفي هذا كله لمعالجة أوجه اللامساواة المتجذرة.

بل نحن في حاجة إلى برامج للإجراءات التصحيحية وسياسات محدّدة الهدف ترمي إلى التصدي لأوجه اللامساواة التاريخية القائمة على نوع الجنس والعرق والأصل الإثني التي عززتها الأعراف الاجتماعية، ومن ثم تصويب الأوضاع.

وللضرائب أيضاً دورها في العقد الاجتماعي الجديد. فالجميع - أفرادا كانوا أم شركات - يجب أن يدفعوا حصتهم العادلة.

وتحتاج بعض البلدان إلى سياسات ضريبية تعترف بأن الأثرياء وأصحاب النفوذ ربحوا الكثير والكثير من الدولة ومن عرَق مواطنيهم.

ويتعين على الحكومات أيضاً أن تحوّل العبء الضريبي الذي تنوء به الرواتب وأن توجّهه نحو انبعاثات الكربون.

ففرض الضرائب على الكربون بدلاً من فرضها على الناس يزيد من النواتج ومن فرص العمل، ويقلل في الوقت ذاته من الانبعاثات.

ولا بد لنا أن نكسر حلقة الفساد المفرغة، فهو سبب من أسباب اللامساواة وأثر من آثارها في ذات الوقت. ويؤدي الفساد إلى تقليص وإهدار الأموال المتاحة للحماية الاجتماعية؛ وهو يضعف الأعراف الاجتماعية ويقوّض سيادة القانون.

ومكافحة الفساد قوامها المساءلة. وأكبر ضمانة تكفل المساءلة هي وجود مجتمع مدني نابض بالحياة، يشمل وسائط إعلام حرة ومستقلة ووسائل تواصل اجتماعي مسؤولة تشجّع النقاش السليم.

أصدقائي الأعزاء،

فلنواجه الحقائق دون مواربة. إن النظامين السياسي والاقتصادي العالميين لا يحققان المنافع العامة العالمية ذات الأهمية البالغة كالصحة العامة، والعمل المناخي، والتنمية المستدامة، والسلام.

وقد أبرزت جائحة كوفيد-19 بشكل واضح القطيعةَ المأساوية بين المصلحة الذاتية والمصلحة المشتركة، والفجواتِ الهائلة في هياكل الحوكمة والأطُر الأخلاقية.

ولرأب هذه الفجوات والتمهيد لنشأة عقد اجتماعي جديد، نحتاج إلى صفقةٍ عالمية جديدة تكفل تقاسم السلطة والثروة والفرص على نطاق أوسع وبشكل أكثر عدلا على الصعيد الدولي.

فأي نموذج جديد للحوكمة العالمية يجب أن يستند إلى مشاركة الأطراف في المؤسسات العالمية مشاركة كاملة وشاملة على قدم المساواة مع بعضها البعض.

وفي غياب ذلك، سنواجه أشكالا أشد من اللامساواة وثغراتٍ أوسع في التضامن - مثل تلك التي نراها اليوم في الجهود العالمية المجزأة التي تُبذل لمواجهة جائحة كوفيد-19.

فالبلدان المتقدمة النمو تعمل بدأب على ضمان سلامتها في خضم الجائحة. ولكنها لا تقدّم الدعم اللازم لمساعدة العالم النامي على اجتياز هذه الفترة العصيبة.

وأفضل طريقٍ لتغيير هذا الواقع هو التوصل إلى صفقة عالمية جديدة تقوم على العولمة العادلة، وعلى الحقوق والكرامة المكفولة لكل إنسان، وعلى سبل العيش في توازن مع الطبيعة، وعلى المراعاة الواجبة لحقوق الأجيال المقبلة، وعلى النجاح الذي يقاس من المنظور الإنساني لا بحسابات الاقتصاد.

وقد تجلى من خلال عملية التشاور العالمية التي جرت بمناسبة قرب الاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس الأمم المتحدة أن الناس يريدون نظاماً عالمياً للحوكمة يلبي احتياجاتهم.

ولذلك يجب أن يكون للعالم النامي صوتٌ أقوى بكثير في عملية صنع القرار على الصعيد العالمي.

كما أننا بحاجة إلى أن يكون النظام التجاري المتعدد الأطراف أكثر شمولا وتوازنا بحيث يمكّن البلدان النامية من ارتقاء درجات سلاسل القيمة العالمية.

ولا بد من منع التدفقات المالية غير المشروعة وتلافي غسل الأموال والتهرب من الضرائب. ولا غنى لنا، في هذا الصدد، عن توافق عالمي في الآراء يرمي إلى القضاء على الملاذات الضريبية.

ويجب أن نعمل معاً على إدماج مبادئ التنمية المستدامة في عملية صنع القرار المالي. ولا بد أن تكون الأسواق المالية شريكاً كاملاً في تحويل تدفقات الموارد بعيداً عن الاقتصاد البُني المدمِّر للبيئة ونظيره الرمادي الذي يعمل في الخفاء وفي توجيهها نحو الاقتصاد الأخضر، نحو الاستدامة والإنصاف.

ويجب أيضا أن يؤدي إصلاح هيكل الديون وتيسير الحصول على القروض ذات التكلفة المعقولة إلى إيجاد حيز مالي يسمح بتوجيه الاستثمارات في الاتجاه ذاته.

أصدقائي الأعزاء،

لقد قال نيلسون مانديلا: ”إن أحد تحديات عصرنا هذا ... هو كيف نبث من جديد في وعي شعوبنا ذلك الشعور بالتضامن الإنساني، بأنهم موجودون في هذا العالم لفائدة بعضهم البعض ومخلوقون بفضل غيرهم وبواسطة غيرهم“.

وقد جاءت جائحة كوفيد-19 لتعزز هذه الرسالة بصورة أقوى من أي وقت مضى.

إن كلا منّا لأخيه.

تعلو هاماتنا إذا وقفنا متحدين، وينهار بنيانُنا إذا تفرقنا.

واليوم نرى بشائر حركة جديدة ... نراها في المظاهرات المناهضة للتفرقة العنصرية ... في الحملات ضد خطاب الكراهية... في نضال أولئك الذين يُعلون أصواتهم للمطالبة بحقوقهم والذود عن مصالح الأجيال القادمة.

إنها حركة تنبذ اللامساواة والانقسام، وتجمع بين الشباب والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمدن والمناطق وغيرها كي يلتفوا حول سياسات تنادي بالسلام وبالدفاع عن كوكبنا وتطلُب العدالة وحقوق الإنسان للجميع. حركة أحدثت أثرا بالفعل.

وقد حان الآن الوقت لكي يقرر قادة العالم:

أنستسلم للفوضى والانقسام واللامساواة؟

أم نصحح أخطاء الماضي ونمضي قدما، جنباً إلى جنب، في طريق يجلب الخير للجميع؟

والحق أننا في منعطف حرج. ولكننا نعلم على أيّ جانب من جانبي التاريخ نقف.

شكرا لكم.